إذا كانت المقاصد أرواح الأعمال -كما يقول الإمام الشاطبي- فإن الأعمال بدون مقاصد تفقد روحها، لذلك شاءت حكمة الله تعالى أن تكون شريعته معللة بمصالح العباد، وإذا علم العباد بذلك سارعوا إلى الامتثال، وأحسنوا الظن بالله عز وجل، وكان فهمهم لمقاصد الشارع خير معين لهم على فهم نصوص الوحي وحسن تمثُّلها. من هنا تكمن أهمية فقه المقاصد إلى جانب فوائد أخرى.
والمتأمل للعبادات في الإسلام، يجد أن جلَّها -إن لم نقل كلها- لا يخلو من مقاصد أخلاقية، إما من جانب الوجود بالدعوة إلى مكارمها، أو من جانب العدم بالنهي عن مساوئها، أو بعبارة أخرى، إما بالتحلية بمكارم الأخلاق، أو التخلية من مساوئها.

إن العبرة ليست في الإكثار من الصلوات وغيرها من العبادات، وإنما في مدى تأثير هذ العبادات في أخلاق العبد وسلوكه، ومدى حضور قلبه عند دعاء ربه، فليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها.

الصلاة ليست طقوسًا رياضية

إن المتتبع لنصوص الوحي والمتشبع لمعانيها، يجد أن الله تعالى حينما شرع الصلاة وفرضها على عباده، لم يرد منهم أن تكون صلاتهم له عبارة عن طقوس وأفعال رياضية يوزعونها بين الليل والنهار، وكأنها ضرائب يؤدونها ولو كراهية حتى يستريحوا منها، وهذا هو الغالب في زماننا وهو يخالف حقيقة العبادة ومقاصدها، وإنما يريد الله منهم الخضوع له بحب، وتعويد أنفسهم على ذكره، وتطهيرها من مساوئ الأخلاق، وتزكيتها بمكارمها، وتعويدها عليها، حتى تصير اختيارًا لها لا اضطرارًا عليها، فهي رغبة قبل أن تكون رهبة، وهي محبة وليست إكراهًا. يقول محمد الغزالي رحمه الله:
“والعبادات التي شُرعت في الإسلام واعتُبرت أركانًا في الإيمان به، ليست طقوسًا مبهمة وحركات لا معنى لها، كلاَّ، فالفرائض التي أَلزم الإسلامُ بها كلَّ منتسب إليه، هي تمارين متكررة لتعويد المرء بأن يحيا بأخلاق صحيحة، وأن يظل مستمسكًا بهذه الأخلاق مهما تغيرت أمامه الظروف”.

للصلاة مقاصد أصلية وتابعة

إذا كان “للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية، مقاصد أصلية ومقاصد تابعة”، فإن الله تعالى جمع بين المقاصد الأصلية والمقاصد التابعة للصلاة في قوله سبحانه: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)(العنكبوت:45)؛ فبيَّن أن الغاية من تشريع الصلاة، هي الارتقاء بالنفس البشرية إلى محاسن الأخلاق ومعاليها، وتعويدها عليها، وإشغالها بها حتى لا تنشغل بأضدادها، وتطهيرها من مساوئها، وسد الذرائع الموصلة إليها.
فالمقصد الأصلي في الصلاة، هو ذكر الله تعالى الذي هو أكبر فيها من النهي عن الفحشاء والمنكر، ويؤكد ذلك ما ورد في قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي)(طه:14)، والمقصد التبعي هو النهي عن الفحشاء والمنكر.
فالمطلوب من المكلف إذن، هو الامتثال لمراد الله تعالى من الصلاة، والتجلي في ذكره سبحانه والخضوع له، والابتعاد عن الفحشاء والمنكر.
وتذكُّر الله تعالى والخضوع له أعظم مقصد في الصلاة. يقول إمام المقاصد أبو إسحاق الشاطبي -رحمه الله تعالى- في سياق حديثه عن المقاصد الأصلية للصلاة: “فالصلاة مثلاً أصل مشروعيتها الخضوع لله سبحانه بإخلاص التوجه إليه، والانتصاب على قدم الذلة والصغار بين يديه، وتذكير النفس بالذكر له”.

الابتعاد عن الفحشاء والمنكر

أما المقاصد التابعة للصلاة فهي متعددة، ومنها كما يشير الإمام الشاطبي: “النهي عن الفحشاء والمنكر، والاستراحة إليها من أنكاد الدنيا، وطلب الرزق بها، وإنجاح الحاجات؛ كصلاة الاستخارة، وصلاة الحاجة، وطلب الفوز بالجنة والنجاة من النار، ونيل أشرف المنازل”.
فالغاية من إقامة الصلاة بعد ذكر الله تعالى، هي التخلق بمكارم الأخلاق والابتعاد عن مساوئها، ومن ثم فهي تهدف إلى العروج بالمكلف إلى ذكر الله تعالى، وإخراجه من أوحال الفحشاء والمنكر، إلى أنوار البر والمعروف.
وكما هو معلوم ومقرر عند الأصوليين، فإن النهي عن الشيء أَمْر بضده إذا لم يكن له إلا ضد واحد. وطبقًا لهذه القاعدة، فإن النهي عن الفحشاء والمنكر، أمر بتطهير النفس من الأخلاق الرديئة، وتزكيتها بالأخلاق الفاضلة.

صلة الصلاة بالسلوك الإيجابي

وبناءً على ذلك، فإن الصلاة الكاملة والمقبولة عند الله، هي التي تترك أثرًا إيجابيًّا في سلوك المصلي وأخلاقه، فتنهاه عن “كل فعل أو قول قبيح يستنكره أصحاب العقول السليمة ولا يقره الشرع”، أي إنها تنهاه عن الفحشاء والمنكر، وتأمره بالبر والمعروف.
فكلما تخلَّق المصلي بأخلاق الإسلام كان لله أقرب، وكلما ابتعد عنها واتصف بأضدادها كان عن الله أبعد، وكانت صلاته مبتورة إن لم تكن مرفوضة، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بُعدًا” (رواه الإمام أحمد).
وعليه فإن كل صلاة لا تراعى فيها الأخلاق السامية ولا تؤثر في صاحبها إيجابًا، أو إنه يفعل ما يضادها؛ فهي ناقصة إن لم تكن ملغية، لأنها مناقضة لقصد الشارع في تشريع العبادة.
ويؤكد ذلك ما ورد في قصة المرأتين اللتين سأل عن حالهما رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قائلاً: يا رسول الله، إن فلانة تُذكَر من كثرة صلاتها وصيامها وصدقتها، غير أنها تؤذي جيرانها بلسانها، قال صلى الله عليه وسلم: “هي في النار”، قال: يا رسول الله، فإن فلانة تُذكَر قِلَّةَ صيامها وصدقتها وصلاتها، وإنها تَصَدَّق بالأثوار من الأَقِطِ، ولا تؤذي جيرانها بلسانها، قال صلى الله عليه وسلم: “هي في الجنة” (رواه الإمام أحمد)، وذلك لأن عبادة المرأة الأولى لم تترك أثرًا إيجابيًّا على أخلاقها وسلوكها بخلاف الثانية.

في الصلاة قوة خلُقية عظيمة، وفي هذه القوة مدد، أي مدد لضمير المؤمن، يقويه على فعل الخير وترك الشر، ومجانبة الفحشاء والمنكر، ومقاومة الجزع عند الشر والمنع عند الخير، فهي تغرس في القلب مراقبة الله تعالى ورعاية حدوده.

ومن هنا نستنتج أن العبرة ليست في الإكثار من الصلوات وغيرها من العبادات، وإنما في مدى تأثير هذ العبادات في أخلاق العبد وسلوكه، ومدى حضور قلبه عند دعاء ربه، فليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها؛ “فالإبعاد عن الرذائل، والتطهير من سوء القول وسوء العمل، هو حقيقة الصلاة”.
والملاحَظ، أن الله عز وجل يربط الصلاة بالأثر المترتب عليها وهو أثر وجداني وأخلاقي، الأول يتمثل في ذكر الله والخضوع له مع استحضار القلب، والثاني في الابتعاد عن الفحشاء والمنكر والتحلِّي بمكارم الأخلاق.
فالصلاة نور تهدي مُقيمَها إلى سواء السبيل، وتخرجه من أوحال المعاصي، وتنهاه عن الفحشاء والمنكر.. لذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وَالصَّلاةُ نُورٌ” (رواه مسلم). والقائم للصلاة هو الذي تدفعه صلاته إلى مكارم الأخلاق وتنهاه عن مساوئها، فتدفعه إلى فعل الخير وتنهاه عن الشر، قال تعالى: )إِنَّ الإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلاَّ الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ دَائِمُونَ)(المعارج:19-23).
ففي الصلاة قوة خلُقية عظيمة، “وفي هذه القوة مدد، أي مدد لضمير المؤمن، يقويه على فعل الخير وترك الشر، ومجانبة الفحشاء والمنكر، ومقاومة الجزع عند الشر والمنع عند الخير، فهي تغرس في القلب مراقبة الله تعالى ورعاية حدوده، والحرص على المواقيت، والدقة في المواعيد، والتغلب على نوازع الكسل والهوى، وجوانب الضعف الإنساني”.
وخلاصة القول، إن المقصد من إقامة الصلاة هو أن يداوم المصلي على ذكر الله وشكره، وأن يتخلى عن مساوئ الأخلاق ويتحلى بمكارمها، حتى يكون صالحًا مصلحًا، وحتى يتأهل ويتأهب لحمل رسالة الاستخلاف التي خُلق من أجلها: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ)(الذاريات:56)، ويؤديها على أحسن وجه كما يريد خالقه، وإذا انعدم المقصد صارت الصلاة ملغية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) باحث في الفكر المقاصدي، جامعة القاضي عياض بمراكش / المغرب.